نظرية جديدة عن التوحد (العمي المخي)

ومن أهم الباحثين فى مجال التوحد وجدنا سيمون بارون كوهن العالم الإنجليزى يكتب نظريته عن العمه المخى mindblindness أو تأخر نظرية العقل لدى التوحديين ( Baron-cohen 1985 ) ، وهى ببساطة القدرة على فهم ما يجرى فى عقول الآخرين من خلال تعاملنا معهم ، حيث أن هذه القدرة ضرورية – بل وحيوية – لحياة البشر ، فهى التى تمكنهم من التواصل مع الآخرين والتفاعل الإجتماعى والإعتطاف empathy . ومن المعروف أن هذه القدرات متأخرة ومعطلة لدى التوحديين. وبعد أكثر من 15 عاما كتب الباحث نفسه نظريته الثانية فى تفسير التوحد ، بأنه زيادة متطرفة فى السمات الذكورية للعقل البشرى ( Baron-cohen 2002 ) ، وكان الباعث الأول لهذه الفكرة هو أن التوحد ينتشر بين الذكور بنسبة أكثر من إنتشاره بين الإناث ، بحيث تصل إلى 4: 1 . ولذلك وضع البروفيسور سيمون بارون كوهن نظريته عن ( عقل الأنثى الإعتطافى وعقل الذكر التنظيمى ) ( empathizing-systemizing theory ) ، وهى النظرية التى تفترض – بناء على ملاحظة السمات العامة لسلوك الجنسين – أن الإناث أكثر قدرة من الذكور على فهم عقول الآخرين ونواياهم والتواصل معهم ، بينما ينصب إهتمام العقل الذكورى على التنظيم الكلى والتخطيط للأمور الكبرى وبالتالى ضآلة قدرته على الإعتطاف مع ما يدور فى عقل الآخرين. وقام الباحث بتطوير هذه النظرية العامة عن العقل البشرى إلى أن وصل لنظريته الخاصة عن تفسير التوحد لغياب القدرة على فهم عقول الآخرين والميل المتطرف للإنتظام فى نشاط محدد – لدى التوحديين أصحاب القدرات العالية . فسره بالنتيجة النهائية لتطرف السمات الذكورية. ومن الواضح أن هذا الإتجاه العام فى تفسير الفروق بين عقل الإناث وعقل الذكور يلقى قبولا وجاذبية حتى فى مجال علم النفس والإجتماع العامين وسوف نعرض فى مقال قادم بعض ما وصلنا من نتائج تلك البحوث.


وفى المجال الإحصائى الطبى تطور البحث عن الدلائل الجينية على إستعداد الجسم لدى بعض الأشخاص للإصابة بالتوحد ، حيث أن التوائم المتماثلة ( الناتجة عن تلقيح بويضة واحدة ) تصل نسبة إصابتهما سويا بالتوحد إلى 90% ، بينما التوائم غير المتماثلة ( الناتجة عن تلقيح أكثر من بويضة ) تصل نسبة الإصابة بينهم إذا كانوا من نفس الجنس إلى 10% فقط ( Rapin 1997 ) ، وهذا الفارق الكبير الدلالة الإحصائية يثبت بلا شك دور المورثات الجينية فى ظهور أعراض التوحد. ولكن يظل السؤال قائما هل للبيئة دور فى ظهور الأعراض ؟. وهنا وصلت الخلافات بين الباحثين لحدود بعيدة وخاصة موضوع الفيروسات والزئبق والمواد الحافظة ، ويخرج التنظير فى هذا الموضوع عن غرض مقالى الحالى.

وتتواصل الدراسات عن الجوانب التشريحية والفسيولوجية للمخ ( الدماغ ) والجهاز العصبى لدى التوحدى ، بل وتطور وتغير الإختلافات التشريحية لدى التوحدى مقارنة بالشخص العادى ، وقد كان أملى حضور المؤتمر الثالث لمركز الأمير سلمان لأبحاث الإعاقة لعرض هذا الموضوع المهم فى معضلة التوحد ولكن اللجنة العلمية رأت غير ذلك. ومن الدراسات الضخمة والجامعة فى هذا المجال ، رسالة الدكتوراة التى قدمتها ساسكيا بالمن فى جامعة أوترشت الهولندية بعنوان ( التركيبات التشريحية غير الطبيعية فى مخ التوحدى ) ( Saskia Palmen 2005 ) ، وفى هذه الدراسة – كما بغيرها – إستعراض لنتائج البحوث التى أثبتت وجود إختلافا تشريحيا لا شك فيه بمخ التوحدى ، ويظل الأثر الوظيفى لهذه التغيرات محل تساؤل ، لدرجة أن توقيت ظهور هذه التغيرات تحول إلى مجال خصب للبحث لمحاولة الإجابة على سؤال : هل هذه التغيرات التشريحية سبب أم نتيجة للتوحد ؟. وقد أجابت البحوث التتبعية على ذلك بأن الخلل التشريحى يسبق ظهور الأعراض.

ما هى النظرية الجديدة عن التوحد

ظهرت إرهاصات هذه النظرية مع توالى تقارير الحالات وملاحظات الأطباء والمعلمين بأن إرتفاع درجة حرارة التوحدى ( نتيجة لمرض وليس مع السونا أو حر الصيف أو النشاط البدنى ) ينتج عنه قلة الأعراض المزعجة فى التوحد ، فتقل السلوكيات النمطية ويتحسن التواصل مع الآخرين. وأحد أشهر تلك التقارير صدر عام 1985 من مستشفى بلفيو للأمراض النفسية التابعة لجامعة نيويورك ونشر فى مجلة ناتشر. ففى ذلك العام حدث وباء عدوى فيروسية فى الجهاز التنفسى ، ولاحظ العاملون فى المستشفى تحسن حالات التوحديين عندما إرتفعت حرارتهم لقرب الأربعين مئوية.

وقد أجرت لورا كوران وآخرون بحثا مقننا بمجموعة ضابطة بغرض بحث مصداقية تلك الملاحظات عن علاقة الحمى بالتوحد ( Laura K Curran 2007 ) ، وتوصلوا لتوثيق التغيرات السلوكية لدى الأطفال التوحديين أثناء الحمى ، وإفترضوا أن تلك النتيجة تبشر بوجود نظام عصبى قابل للإصلاح والمعالجة لدى التوحديين ، وأن التغيرات المناعية والكيماوية الجزيئية المصاحبة للحمى تؤدى للتحسن فى الأعراض. وهذه الفرضية ليست بعيدة عن بحوث خلل المناعة الذاتية المفترضة كسبب للتوحد فى كل مقالات الدكتور (Vijendra K. Singh ) من جامعة أوتا فى أميركا.

أما عن صاحبى النظرية الجديدة المبنية على ما سبق من ملاحظات وبحوث – وغيرها فى نفس الإتجاه – فهما ميلر وبربرا اللذان نشرا مقالهما ( Mark F. Mehler and Dominick P. Purpura 2009 ) وإفترضا أن ( البقعة الزرقاء ) الواقعة فى النخاع المستطيل للجهاز العصبى المركزى ، وهى المسؤولة عن التعامل مع الإشارات العصبية فى حالات الشدة وتعرض الإنسان للضغوط من خلال إستخدام مادة النورأدرينالين الموصلة ، هى المستهدفة من الإصلاح المؤقت للأعراض التوحدية مع حالات الحمى. وقد توقعا أن تتجه البحوث لإكتشاف طرق تشخيصية جديدة وعلاجات تستهدف نظام التوصيل فى البقعة الزرقاء لدى التوحديين. ولاشك أن هذه النظرية ستثير الكثير من النقاشات فى الأيام القليلة القادمة وسوف نتابعها سويا ، فربما يكون فيها خير عميم لأبنائنا.

منقول
دكتور على صابر محمد

إستشارى الأمراض النفسية والعصبية – مصر